القيادة تحت الضغط- من الأزمات إلى الفرص، الداخل وابن سعود
المؤلف: عبد الرحمن الشقير10.08.2025

يسلط هذا المقال الضوء على مفهوم القيادة في أحلك الظروف وأشدها قسوة، وكيف يمكن للقادة المحنكين تحويل الأزمات والمصاعب إلى فرص سانحة ومواتية للنجاح والازدهار. ويستعرض المقال، في هذا السياق، مقارنة ثرية بين شخصيتين بارزتين في التاريخ الإسلامي والعربي، هما الأمير المؤسس عبد الرحمن الداخل، والأمير محمد بن سعود، مؤسس الدولة السعودية الأولى. هذه المقارنة بين شخصيات تنتمي إلى حقب زمنية متباينة وأماكن جغرافية مختلفة، تضفي عمقًا وبعدًا جديدًا على فهمنا للتاريخ السياسي والاجتماعي، وتسلط الضوء على الصفات والمهارات القيادية التي تتجاوز الزمان والمكان.
في أواخر أيام الدولة الأموية في الشام، شهدت الدولة انقسامات عميقة وتصدعات كبيرة، وسادت حالة من التوجس والقلق بين الأمراء والخوف من هجمات العلويين. وفي خضم هذه الأوضاع المتردية، شن العباسيون هجومًا مباغتًا وقاتلًا، فقتلوا العديد من الأمراء الأمويين وطاردوا من نجا منهم.
كان من بين هؤلاء الناجين الأمير عبد الرحمن الداخل، الذي لُقب بـ "صقر قريش" (113- 172هـ/ 731- 788م)، والذي فرّ بصحبة خادمه. ويُروى أن الخادم قال له بعد نجاتهما من المذابح: «قد سمعتك يا سيدي تقول لأهل بيتك: العزيمة الآن أن نبقى أحياء». هذه العبارة "العزيمة الآن أن نبقى أحياء" تعني الخطة الأساسية والهدف الأسمى.
والجدير بالذكر أن هذه الكلمة المؤثرة والملهمة لم ترد في كتب التاريخ على الرغم من البحث المضني والجهد الكبير الذي بُذل للعثور عليها، ولكنها ظهرت في مسلسل "صقر قريش" (الحلقة 11)، المقتبس من رواية "النار والعنقاء" (الجزء الثاني، الصفحة 8) للمؤلف وليد سيف. وعلى الرغم من أن هذه الكلمة متخيلة، إلا أنها تندرج ضمن إطار الخيال الأدبي الراقي، الذي لا يُلهم به إلا من تعمق في فهم الأحداث التاريخية واستشعر نفسية عبد الرحمن الداخل في تلك اللحظة الحاسمة. فهي تعبر بصدق عن لسان حاله وتعكس تصميمه وإصراره على البقاء، وتستحق أن تكون محورًا لقصة ملهمة.
وفي نهاية المطاف، قادت عزيمة عبد الرحمن الداخل إلى تأسيس دولة أموية قوية في الأندلس، حيث دخلها أميرًا دون خوض معارك أو حروب، وذلك بفضل سمعته الطيبة وقوة شخصيته التي سبقته. ولذلك، لُقب بـ "الداخل". وسرعان ما قام بعقد تحالفات استراتيجية مع قبائل العرب والبربر، وأعاد إلى قرطبة رونقها وازدهارها، حتى أصبح تاريخها الحديث مرتبطًا بسيرته ارتباطًا وثيقًا. واستمرت دولة الأندلس تحت حكمه ثلاثة قرون (138- 422هـ/ 756- 1031م).
هذه القصة الملهمة والموجزة استقطبت اهتمام المؤرخين والمستشرقين الذين كتبوا عنها الكثير من الكتب والمقالات والدراسات. كما ألهمت المخرجين والمنتجين، الذين قاموا بإنتاج مسلسلات وأفلام سينمائية تجسد أحداثها. وفي الوقت نفسه، استوقفت عبارة "الخطة أن نبقى أحياء" مدربي تطوير الذات، الذين أقاموا حولها الدورات التدريبية وورش العمل. حتى أصبح تأسيس دولة الأمويين في الأندلس ثقافة عامة ومعلومات يعرفها الجميع ويستمتعون بها، بل ويستلهمون منها لتطوير شخصياتهم وقدراتهم.
إن سير القادة وكيفية تعاملهم مع تحويل الأزمات إلى فرص تتكرر عبر التاريخ، ولكن هذا التكرار يحمل معه ثيمات أساسية كان لها تأثير بالغ في تغيير مسار التاريخ، وليس مجرد محاكاة تفصيلية للأحداث. وأرى أن هذه الثيمات تتشابه إلى حد كبير بين الأميرين عبد الرحمن الداخل ومحمد بن سعود (توفي عام 1179هـ/ 1765م).
عندما كنت أقرأ قصة تولي الإمام محمد بن سعود في التاريخ السعودي، كنت أجدها تمر مرور الكرام، ولا تتجاوز النص التالي: «فرجع الأمير محمد بن سعود ومن معه إلى الدرعية أميرًا عليها». ولكنني أرى أنه من الضروري تفكيك هذا السطر وتحويله إلى قصة مفصلة تستحق مكانها الطبيعي في تاريخنا المحلي، بل في تاريخ العرب الحديث، بالنظر إلى ما آلت إليه الأمور لاحقًا.
فالفترة ما بين رجوع الأمير محمد بن سعود إلى الدرعية وتتويجه أميرًا عليها كانت بمثابة تطبيق عملي لخطة "البقاء على قيد الحياة". فقد كان تتويجه بمثابة تتويج للخبرة والكفاءة والإيثار والتفاني والوفاء والشجاعة. فقد اجتمع أعيان آل سعود ووجهاء الدرعية وجموع الأهالي لمبايعته بالإجماع ليكون أميرًا على الدرعية عام 1139هـ. وقد أحسن إدارة الدرعية، حيث كثف جهوده لتحقيق الاستقرار وبناء المؤسسات الدينية والاقتصادية والعسكرية، ونقل الصراع السياسي إلى خارجها.
النجاة فن القادة
من خلال تحليل قصة الأميرين عبد الرحمن الداخل ومحمد بن سعود من زاوية فن النجاة والقيادة في ظل الأزمات، يمكن ملاحظة ما يلي:
- كلا القائدين ظهرا من بيئة سياسية مضطربة وغير مستقرة، وكان هروبهما من الصراعات الطائشة وعمليات القتل الجماعي بداية لمرحلة جديدة من إعادة بناء الذات في موقع آمن ومستقر.
- كلا القائدين واجها تهديدًا حقيقيًا ومباشرًا لحياتهما، فالبقاء لا يعني فقط تفادي الموت، فكثير ممن حضر الأحداث قد تفادى الموت، ولكن شخصًا واحدًا فقط في كل حادثة كان لديه رؤية واضحة وعين على تحويل لحظة النجاة إلى تأسيس نقطة انطلاق جديدة نحو مستقبل أفضل.
- كلا القائدين أحسن استغلال واستثمار الفراغ السياسي؛ حيث كانت الأندلس تعاني من الفوضى والاضطرابات، وكذلك كانت الدرعية تعاني من نفس المشاكل. فكان المشروع التنموي السياسي الذي بدأ من نقطة الإمارة وتوسع ليصبح دولة عالمية.
- أسس عبد الرحمن الداخل دولة أموية جديدة في الأندلس، وغير وجه أوروبا، بينما وضع محمد بن سعود الأساس للدولة السعودية الأولى التي غيرت وجه الجزيرة العربية.
- تمتع القائدان بقدرة فائقة على التركيز على المصالح العليا للدولة، وتجاوز التجارب الأليمة وعدم تضييع الوقت والجهد في الانتقام، على الرغم من فداحة الغدر وقرب الأحداث. فكانت سياسة القائدين تركز على بناء الداخل وتقويته والتوسع المنضبط.
- دخل عبد الرحمن الداخل الأندلس بسمعته الطيبة التي سبقته، ودخل محمد بن سعود الدرعية بسمعته التي سبقته أيضًا. فالقادة الحقيقيون قادرون على بناء هالة من الاحترام والتقدير حول شخصياتهم واستثمارها طوال حياتهم، وليست مجرد مواقف عابرة ومتغيرة، مما يتطلب منهم انضباطًا نفسيًا وعاطفيًا كبيرين.
- خرج عبد الرحمن الداخل من الشام ومحمد بن سعود من العيينة وهما يحملان دروسًا قاسية ومؤثرة حول فن النجاة وكيفية التعامل مع الأزمات.
- أظهر كلا القائدين شجاعة استثنائية وبسالة نادرة تحت الضغط المميت؛ حيث تحولت حياة كل منهما إلى قادة دول بعد النجاة من الموت المحقق.
- أعاد عبد الرحمن الداخل نهضة قرطبة وأحيى مجدها، وبنى فيها الجامع الكبير، وشجع على استيطانها حتى اكتظت بالسكان. وبالمثل، وسع محمد بن سعود حي الطريف، وجعله العاصمة السياسية، وبنى الجامع الكبير، وشجع على استقطاب السكان إليها.
- آمن القائدان بفطرتهما القيادية بضرورة الاقتصاد كأداة للسيطرة والتمكين، فنشطت الزراعة والتجارة في بلديهما، وكانت أساسًا لبناء الدولة القوية والمزدهرة.
فالبقاء على قيد الحياة باعتباره غاية إنسانية نبيلة يعتبر مسألة وجودية، خاصة إذا كان الموت أحد الخيارات المطروحة؛ حيث يكون الوجود له الأولوية القصوى، ثم تأتي بعد ذلك القرارات الأخرى. ويظهر ذلك جليًا في فلسفة نيتشه الذي يرى فيها أن إرادة القوة هي الدافع الأساسي للنجاة والنجاح.
تحويل المستحيل إلى ممكن: صناعة التحالفات
أدرك عبد الرحمن الداخل أهمية التحالفات الاستراتيجية، فحشد القبائل العربية والبربرية في الأندلس لكسب الشرعية والتأييد. وهذا السر يكمن في تحويل المستحيل إلى ممكن من خلال التحالفات، ولا يدرك عمق هذا المفهوم إلا من مرَّ بظروف مماثلة لظروف عبد الرحمن الداخل. ولكن هذه الفكرة بقيت في ذهن محمد بن سعود ثمانية عشر عامًا حتى حانت الفرصة وعزز حضور المؤسسة الدينية في المجتمع باعتبارها أحد العوامل القادرة على إيجاد مجتمع متجانس ودولة قوية، بحسب نظرية ابن خلدون.
وأثبتت التجارب المريرة لكلا القائدين أن الشرعية لا تكتسب بالنسب إلى بيت إمارة فقط، بل لا بد من توحيد القبائل حول فكرة متماسكة وهدف مشترك وخدمة المصالح المتبادلة.
فالتحالف عند القائدين هو مشروع لإعادة تشكيل الخارطة السياسية وفقًا لاحتياجات المرحلة ومتطلبات الواقع، فكان تحالف محمد بن سعود الديني بمثابة "عقد اجتماعي" جديد أعاد تعريف مفهوم العلاقة بين السلطة والمجتمع بشكل لم يألفه أفراد المجتمع من قبل.
والتحالف طويل الأمد هو وسيلة للبقاء في نظر القائد الذي مرّ بتجربة الاقتراب من الموت، وهو أداة قوة في نظر القائد العادي. وقد استطاع الإمام محمد بن سعود، القائد الصموت، أن يقرأ مخاوف القبائل والبلدان، ولم يستعجل الفرصة عندما لم يجدها سانحة، بل انتظر حتى نضجت الظروف المحلية، ورأى أن تقوية المؤسسة الدينية هو الحل الأمثل.
كان التحالف بين تجربة الأندلس وتجربة نجد يعبّر عن ثنائية العقل المتمثل في استراتيجية البقاء، والعاطفة المتمثلة في الثقة المتبادلة والتعاون المشترك.
ختامًا
إن المقارنة بين قائدين لا يجمعهما زمان ولا مكان، تعطي نتائج قوية ومثمرة أكثر من المقارنات المتشابهة. وقد أُجريت هذه المقارنة بهدف استنطاق روح القيادة التي تظهر وتتجلّى تحت الضغط القاتل والظروف الصعبة، فبرزت أوجه التشابه بين القادة بوضوح. ولو لم يتعرض عبد الرحمن الداخل ومحمد بن سعود لمواقف شديدة وقاسية، لما رأينا هذا الإبداع والابتكار في إرادة القوة والإصرار على النجاح.
إن تحليل السير الذاتية لقادة آل سعود بفكر استراتيجي وفلسفي، والتعمق في أعماق النفس البشرية أثناء الأحداث وفهم ما يدور بداخل القائد من خيارات واسعة، وتفكيك خياراته الخاصة، سيضعها في سياق تاريخي سليم. بينما دراستها بأسلوب تقليدي يعتمد على حشد النصوص والمعلومات سيؤدي إلى التقليل من قيمتها المعنوية، ويقلل من متعة استكشاف التاريخ، ويحجب الكثير من الحقائق دون قصد، ويفسد عظمة الوثائق.
وسبق لي كتابة مقالة مقارنة بين الإمام عبد العزيز بن محمد وإيفان الرهيب تحت عنوان «الجيوبوليتيك بين نجد وروسيا»، وأجد في الاستمرار في هذه التجربة مجالًا لفتح آفاق بحثية وأدبية وفنية جديدة تأخرت كثيرًا.
ومن المقارنة التاريخية بين المؤسس وابنه، يتضح أن الدولة السعودية تجدد ذاتها بالقادة عبر ثلاثة قرون، ويجد قادتها الفرص المتاحة في قلب الأزمات والتحديات، ويهدفون دائمًا إلى تحقيق المصالح العليا للدولة في جميع المواقف السياسية.
في أواخر أيام الدولة الأموية في الشام، شهدت الدولة انقسامات عميقة وتصدعات كبيرة، وسادت حالة من التوجس والقلق بين الأمراء والخوف من هجمات العلويين. وفي خضم هذه الأوضاع المتردية، شن العباسيون هجومًا مباغتًا وقاتلًا، فقتلوا العديد من الأمراء الأمويين وطاردوا من نجا منهم.
كان من بين هؤلاء الناجين الأمير عبد الرحمن الداخل، الذي لُقب بـ "صقر قريش" (113- 172هـ/ 731- 788م)، والذي فرّ بصحبة خادمه. ويُروى أن الخادم قال له بعد نجاتهما من المذابح: «قد سمعتك يا سيدي تقول لأهل بيتك: العزيمة الآن أن نبقى أحياء». هذه العبارة "العزيمة الآن أن نبقى أحياء" تعني الخطة الأساسية والهدف الأسمى.
والجدير بالذكر أن هذه الكلمة المؤثرة والملهمة لم ترد في كتب التاريخ على الرغم من البحث المضني والجهد الكبير الذي بُذل للعثور عليها، ولكنها ظهرت في مسلسل "صقر قريش" (الحلقة 11)، المقتبس من رواية "النار والعنقاء" (الجزء الثاني، الصفحة 8) للمؤلف وليد سيف. وعلى الرغم من أن هذه الكلمة متخيلة، إلا أنها تندرج ضمن إطار الخيال الأدبي الراقي، الذي لا يُلهم به إلا من تعمق في فهم الأحداث التاريخية واستشعر نفسية عبد الرحمن الداخل في تلك اللحظة الحاسمة. فهي تعبر بصدق عن لسان حاله وتعكس تصميمه وإصراره على البقاء، وتستحق أن تكون محورًا لقصة ملهمة.
وفي نهاية المطاف، قادت عزيمة عبد الرحمن الداخل إلى تأسيس دولة أموية قوية في الأندلس، حيث دخلها أميرًا دون خوض معارك أو حروب، وذلك بفضل سمعته الطيبة وقوة شخصيته التي سبقته. ولذلك، لُقب بـ "الداخل". وسرعان ما قام بعقد تحالفات استراتيجية مع قبائل العرب والبربر، وأعاد إلى قرطبة رونقها وازدهارها، حتى أصبح تاريخها الحديث مرتبطًا بسيرته ارتباطًا وثيقًا. واستمرت دولة الأندلس تحت حكمه ثلاثة قرون (138- 422هـ/ 756- 1031م).
هذه القصة الملهمة والموجزة استقطبت اهتمام المؤرخين والمستشرقين الذين كتبوا عنها الكثير من الكتب والمقالات والدراسات. كما ألهمت المخرجين والمنتجين، الذين قاموا بإنتاج مسلسلات وأفلام سينمائية تجسد أحداثها. وفي الوقت نفسه، استوقفت عبارة "الخطة أن نبقى أحياء" مدربي تطوير الذات، الذين أقاموا حولها الدورات التدريبية وورش العمل. حتى أصبح تأسيس دولة الأمويين في الأندلس ثقافة عامة ومعلومات يعرفها الجميع ويستمتعون بها، بل ويستلهمون منها لتطوير شخصياتهم وقدراتهم.
إن سير القادة وكيفية تعاملهم مع تحويل الأزمات إلى فرص تتكرر عبر التاريخ، ولكن هذا التكرار يحمل معه ثيمات أساسية كان لها تأثير بالغ في تغيير مسار التاريخ، وليس مجرد محاكاة تفصيلية للأحداث. وأرى أن هذه الثيمات تتشابه إلى حد كبير بين الأميرين عبد الرحمن الداخل ومحمد بن سعود (توفي عام 1179هـ/ 1765م).
عندما كنت أقرأ قصة تولي الإمام محمد بن سعود في التاريخ السعودي، كنت أجدها تمر مرور الكرام، ولا تتجاوز النص التالي: «فرجع الأمير محمد بن سعود ومن معه إلى الدرعية أميرًا عليها». ولكنني أرى أنه من الضروري تفكيك هذا السطر وتحويله إلى قصة مفصلة تستحق مكانها الطبيعي في تاريخنا المحلي، بل في تاريخ العرب الحديث، بالنظر إلى ما آلت إليه الأمور لاحقًا.
فالفترة ما بين رجوع الأمير محمد بن سعود إلى الدرعية وتتويجه أميرًا عليها كانت بمثابة تطبيق عملي لخطة "البقاء على قيد الحياة". فقد كان تتويجه بمثابة تتويج للخبرة والكفاءة والإيثار والتفاني والوفاء والشجاعة. فقد اجتمع أعيان آل سعود ووجهاء الدرعية وجموع الأهالي لمبايعته بالإجماع ليكون أميرًا على الدرعية عام 1139هـ. وقد أحسن إدارة الدرعية، حيث كثف جهوده لتحقيق الاستقرار وبناء المؤسسات الدينية والاقتصادية والعسكرية، ونقل الصراع السياسي إلى خارجها.
النجاة فن القادة
من خلال تحليل قصة الأميرين عبد الرحمن الداخل ومحمد بن سعود من زاوية فن النجاة والقيادة في ظل الأزمات، يمكن ملاحظة ما يلي:
- كلا القائدين ظهرا من بيئة سياسية مضطربة وغير مستقرة، وكان هروبهما من الصراعات الطائشة وعمليات القتل الجماعي بداية لمرحلة جديدة من إعادة بناء الذات في موقع آمن ومستقر.
- كلا القائدين واجها تهديدًا حقيقيًا ومباشرًا لحياتهما، فالبقاء لا يعني فقط تفادي الموت، فكثير ممن حضر الأحداث قد تفادى الموت، ولكن شخصًا واحدًا فقط في كل حادثة كان لديه رؤية واضحة وعين على تحويل لحظة النجاة إلى تأسيس نقطة انطلاق جديدة نحو مستقبل أفضل.
- كلا القائدين أحسن استغلال واستثمار الفراغ السياسي؛ حيث كانت الأندلس تعاني من الفوضى والاضطرابات، وكذلك كانت الدرعية تعاني من نفس المشاكل. فكان المشروع التنموي السياسي الذي بدأ من نقطة الإمارة وتوسع ليصبح دولة عالمية.
- أسس عبد الرحمن الداخل دولة أموية جديدة في الأندلس، وغير وجه أوروبا، بينما وضع محمد بن سعود الأساس للدولة السعودية الأولى التي غيرت وجه الجزيرة العربية.
- تمتع القائدان بقدرة فائقة على التركيز على المصالح العليا للدولة، وتجاوز التجارب الأليمة وعدم تضييع الوقت والجهد في الانتقام، على الرغم من فداحة الغدر وقرب الأحداث. فكانت سياسة القائدين تركز على بناء الداخل وتقويته والتوسع المنضبط.
- دخل عبد الرحمن الداخل الأندلس بسمعته الطيبة التي سبقته، ودخل محمد بن سعود الدرعية بسمعته التي سبقته أيضًا. فالقادة الحقيقيون قادرون على بناء هالة من الاحترام والتقدير حول شخصياتهم واستثمارها طوال حياتهم، وليست مجرد مواقف عابرة ومتغيرة، مما يتطلب منهم انضباطًا نفسيًا وعاطفيًا كبيرين.
- خرج عبد الرحمن الداخل من الشام ومحمد بن سعود من العيينة وهما يحملان دروسًا قاسية ومؤثرة حول فن النجاة وكيفية التعامل مع الأزمات.
- أظهر كلا القائدين شجاعة استثنائية وبسالة نادرة تحت الضغط المميت؛ حيث تحولت حياة كل منهما إلى قادة دول بعد النجاة من الموت المحقق.
- أعاد عبد الرحمن الداخل نهضة قرطبة وأحيى مجدها، وبنى فيها الجامع الكبير، وشجع على استيطانها حتى اكتظت بالسكان. وبالمثل، وسع محمد بن سعود حي الطريف، وجعله العاصمة السياسية، وبنى الجامع الكبير، وشجع على استقطاب السكان إليها.
- آمن القائدان بفطرتهما القيادية بضرورة الاقتصاد كأداة للسيطرة والتمكين، فنشطت الزراعة والتجارة في بلديهما، وكانت أساسًا لبناء الدولة القوية والمزدهرة.
فالبقاء على قيد الحياة باعتباره غاية إنسانية نبيلة يعتبر مسألة وجودية، خاصة إذا كان الموت أحد الخيارات المطروحة؛ حيث يكون الوجود له الأولوية القصوى، ثم تأتي بعد ذلك القرارات الأخرى. ويظهر ذلك جليًا في فلسفة نيتشه الذي يرى فيها أن إرادة القوة هي الدافع الأساسي للنجاة والنجاح.
تحويل المستحيل إلى ممكن: صناعة التحالفات
أدرك عبد الرحمن الداخل أهمية التحالفات الاستراتيجية، فحشد القبائل العربية والبربرية في الأندلس لكسب الشرعية والتأييد. وهذا السر يكمن في تحويل المستحيل إلى ممكن من خلال التحالفات، ولا يدرك عمق هذا المفهوم إلا من مرَّ بظروف مماثلة لظروف عبد الرحمن الداخل. ولكن هذه الفكرة بقيت في ذهن محمد بن سعود ثمانية عشر عامًا حتى حانت الفرصة وعزز حضور المؤسسة الدينية في المجتمع باعتبارها أحد العوامل القادرة على إيجاد مجتمع متجانس ودولة قوية، بحسب نظرية ابن خلدون.
وأثبتت التجارب المريرة لكلا القائدين أن الشرعية لا تكتسب بالنسب إلى بيت إمارة فقط، بل لا بد من توحيد القبائل حول فكرة متماسكة وهدف مشترك وخدمة المصالح المتبادلة.
فالتحالف عند القائدين هو مشروع لإعادة تشكيل الخارطة السياسية وفقًا لاحتياجات المرحلة ومتطلبات الواقع، فكان تحالف محمد بن سعود الديني بمثابة "عقد اجتماعي" جديد أعاد تعريف مفهوم العلاقة بين السلطة والمجتمع بشكل لم يألفه أفراد المجتمع من قبل.
والتحالف طويل الأمد هو وسيلة للبقاء في نظر القائد الذي مرّ بتجربة الاقتراب من الموت، وهو أداة قوة في نظر القائد العادي. وقد استطاع الإمام محمد بن سعود، القائد الصموت، أن يقرأ مخاوف القبائل والبلدان، ولم يستعجل الفرصة عندما لم يجدها سانحة، بل انتظر حتى نضجت الظروف المحلية، ورأى أن تقوية المؤسسة الدينية هو الحل الأمثل.
كان التحالف بين تجربة الأندلس وتجربة نجد يعبّر عن ثنائية العقل المتمثل في استراتيجية البقاء، والعاطفة المتمثلة في الثقة المتبادلة والتعاون المشترك.
ختامًا
إن المقارنة بين قائدين لا يجمعهما زمان ولا مكان، تعطي نتائج قوية ومثمرة أكثر من المقارنات المتشابهة. وقد أُجريت هذه المقارنة بهدف استنطاق روح القيادة التي تظهر وتتجلّى تحت الضغط القاتل والظروف الصعبة، فبرزت أوجه التشابه بين القادة بوضوح. ولو لم يتعرض عبد الرحمن الداخل ومحمد بن سعود لمواقف شديدة وقاسية، لما رأينا هذا الإبداع والابتكار في إرادة القوة والإصرار على النجاح.
إن تحليل السير الذاتية لقادة آل سعود بفكر استراتيجي وفلسفي، والتعمق في أعماق النفس البشرية أثناء الأحداث وفهم ما يدور بداخل القائد من خيارات واسعة، وتفكيك خياراته الخاصة، سيضعها في سياق تاريخي سليم. بينما دراستها بأسلوب تقليدي يعتمد على حشد النصوص والمعلومات سيؤدي إلى التقليل من قيمتها المعنوية، ويقلل من متعة استكشاف التاريخ، ويحجب الكثير من الحقائق دون قصد، ويفسد عظمة الوثائق.
وسبق لي كتابة مقالة مقارنة بين الإمام عبد العزيز بن محمد وإيفان الرهيب تحت عنوان «الجيوبوليتيك بين نجد وروسيا»، وأجد في الاستمرار في هذه التجربة مجالًا لفتح آفاق بحثية وأدبية وفنية جديدة تأخرت كثيرًا.
ومن المقارنة التاريخية بين المؤسس وابنه، يتضح أن الدولة السعودية تجدد ذاتها بالقادة عبر ثلاثة قرون، ويجد قادتها الفرص المتاحة في قلب الأزمات والتحديات، ويهدفون دائمًا إلى تحقيق المصالح العليا للدولة في جميع المواقف السياسية.